الجمعة، 27 فبراير 2015

تركي بن الحسن الدهماني - البشرى


حكيم المعرة أبو العلاء المعري بقلم : تركي بن الحسن الدهماني

حكيم المعرة أبو العلاء المعري      

 بقلم : تركي بن الحسن الدهماني


هو أحمد بن عبد الله بن سليمان , يكنى أبو العلاء , من محلة يقال لها : معرة النعمان وهي من بلاد الشام سوريا حالياً , ولد أبو العلاء المعري بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة , ولم يتم الثالثة من عمره حتى أعتل بالجدري والتي بسببها ذهب بصره وذلك سنة سبع وستين وثلاثمائة.
وكان لا يذكر من الألوان إلا الأحمر , قال أبو العلاء : " لا أعرف من الألوان إلا الأحمر , لأني ألبستُ في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر ".
وكان قصير القامة نحيل الجسم , مشوهة الوجه بالجدري.
قلت : قال أبو العلاء الشعر ولم يتجاوز عمره حينها الحادية عشرة , فهو من أسرة علم وأدب وقضاء , فقد كان جده سليمان قاضي المعرة , وعمه أبو بكر محمد , وكذلك أبو محمد عبد الله والد أبي العلاء.
وكان أبو العلاء قد تلقى علم النحو واللغة في حداثته أولاً على يد والده , ثم ما لبث أن رحل إلى حلب ليسمع اللغة والأدب من علمائها ولقد كانت حلب في تلك الفترة تزدهي بمن فيها من العلماء والأدباء .
فتخرج على أيدي أولئك العلماء لغوياً وأديباً وشاعراً .
أول فاجعة ألمت بأبي العلاء وألمه إيلاماً شديداً , وهو موت أبيه , ونقرأ رثاه فيه وذلك في ديوانه سقط الزند :
نقمتُ الرضا حتى على ضاحك المزن
فلا جادني إلا عبوس من الدجنِ
فليت فمي إن شام نسى تبسمي
فمُ الطعنة النجلاء تدمي بلا سنِ
كأن ثناياه أو أنس يبتغي
لها حسنُ ذكرٍ يالصيانة والسجنِ
وفي موضعٍ آخر يصف فيه وقار أبيه :
فيا ليت شعري هل يخفف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروى مبادراً
مع الناس أم يخشى الزحام فيستأن
حجاً راده من جرأةٍ وسماحة
وبعض الحجا يدعو إلى البخل والجبن
رحل أبي العلاء إلى بغداد سنة ثمانٍ وتسعين وثلاثمائة , فأقام بها سنة وسبعة أشهرٍ , قال ياقوت في " معجم الأدباء " : ونقلتُ من بعض الكتب , أن أبا العلاء لما ورد إلى بغداد , قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه , فلما دخل إليه , قال علي بن عيسى : ليصعد الإصطبل , فخرج مغضباً ولم يعد إليه , الإصطبلُ في لغةِ أهل الشام : الأعمى , ولعلها معربةُ .
وقال ياقوت: ودخل على المرتضى أبي القاسم , فعثر برجلٍ , فقال : من هذا الكلبُ ؟ , فقال المعري : الكلبُ من لا يعرف للكلبِ سبعين اسماً , وسمعهُ المرتضى فاستدناهُ , واختبرهُ فوجدهُ عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء , فأقبل عليهِ إقبالاً كثيراً .
ومهما يكن من شيء فقد نال ما تمنى فقد اطلع على العلوم واللقاء بالعلماء هناك , وكان عمره حين رحل إلى بغداد خمسُ وثلاثون سنة , ونقرأ له في إحدى رسائله العجيبة , ما قال في بغداد وأهلها , قال : " وجدتُ القلم ببغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة " , لعله عنى بذلك علمائها , وفي موضع آخر يقول في البغداديين : " يحسنُ الله جزاء البغداديين , فلقد وصفوني بما لا أستحق , وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم , وعرضوا عليَّ أموالهم عرضُ الجد " .
قلت : قد وجد أبو العلاء من البغداديين حسن الضيافة والكرم , وأفادوا منه علماً , وأنزلوه بما هو أهل .
ومن الأحداث المهمة التي جرت لأبي العلاء أثناء إقامته ببغداد , هو عندما كان في حضرة المرتضى , قال ياقوت رحمه الله : وكان أبو العلاء يتعصب للمتنبئ , ويزعم أنه أشعر المحدثين , ويفضلهُ على بشار ومن بعده , مثل أبي نواسٍ , وأبي تمام , وكان المرتضى يبغضُ المتنبئ , ويتعصب عليه , فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبئ , فتنقصهُ المرتضى , وجعل يتبع عيوبهُ , فقال المعري : لو لم يكن للمتنبئ من الشعر إلا قولهُ :
لَكِ منازلُ في القُـلوبِ مَنـازلُ
لكفاه فضلاً , فغضب المرتضى وأمرَ فَسُحبَ برِجلهِ , وأخُرجَ من مجلِسهِ , أيُّ شيءٍ أراد الأعمى بذكرِ هذه القصيدة؟ فإن للمتنبئ ما هو أجودُ منها لم يذكرها , فقيل : النقيب السيد أعرف , فقال : أراد قولهُ في هذه القصيدة:
إذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كَامِلُ
كنا قد ذكرنا في موضعٍ سابق أن أبا العلاء قد أقام ببغداد سنة وسبعة أشهرٍ , ثم ما لبث أن عاد إلى بلده , وكان قد ترك بغداد في العشر الأخير من شهر رمضان سنة أربعمائة , عائداً إلى المعرة , فلما حلَّ بها بلغه نبأ وفاة أمه , فأصابه حزن طويل , وله في ديوان سقط الزند أبياتُ يرثي بها أمه :
سمعتُ نعيها صما صمام وأن قال العواذل لا همامِ
وأمتني إلى الأجداث أمُ يعز عليَّ أن سارت أمامي
وأكبر أن يرثيها لساني بلفظٍ سالكٍ طرق الطعامِ
فلما رجع أبي العلاء إلى معرة النعمان لزم منزلهُ , ولم يخرج منه , وسمى نفسه رهين المحبسين , يعني حبس نفسه في المنزل , وترك الخروج منه , وحبسهُ عن النظر إلى الدنيا بالعمى .
ونقرأ له أبيات سمى نفسه فيها برهين المحابس الثلاثة , كما يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن النبأ النبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيثِ
قيل أن أبا العلاء قد أعتزل الناس خمسين سنة , وفي بعض الروايات تقول: بل خمساً وأربعين سنة .
قال عن اعتزاله للناس :
وزهدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأن العالمين هباْ
ولو أن كل نفوس الناس رائية كرأي نفسي تناهت عن خزاياها
وطلقوا هذه الدنيا فما ولدوا ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
أخذ أبو العلاء في هذه العزلة القاسية , يلبس غليظ الثياب , مع أنه ذو غنى وكان ينفق على الفقراء والمعوزين , ويعيش عيشة الزهد والتقشف , وكان دون زوج وولد .
وأمتنع من أكل اللحوم كما يفعل البراهمة , وقيل : أنه لم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة , كذلك كل ما يخرج من البحر .
روي عن أبو الحسن الصابئ , قال : أنه – يعني أبو العلاء – بقي خمساً وأربعين سنةً لا يأكل اللحم ولا البيض , ويُحرم إيلام الحيوان , ويقتصر على ما ينبتُ الأرض , ويلبس خشن الثياب , ويظهر دوام الصوم.
وقيل : أنه مرض مرة , فوصف الطبيب له الفروج وهو الدجاج الصغير , فلما جيء به لمسهُ بيده , وقال : استضعفوك فوصفوك , هلا وصفوا شبل الأسد .
قلت : وهذا الذي يقوله أبو العلاء هو رأي البراهمة .
فإذن كان أبا العلاء يعيش عيشة نباتية مرتضياً بها , قال في ذلك :
فلا تأكلن ما أخرج من البحر ظالماً ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
و لا بيض أمات أرادت صريحة لأطفالها دون الغواني الصرائح
ولا تفجعنّ الطير وهي غوافل بما وضعت فالظلم شرّ القبائح
قلت : نقرأ في اللزوميات من محاورته للديك والحمامة , ورثاءه للشاة التي تذبح , وكذلك النحل والتي منها يستخرج العسل , وبكائه على الناقة والفصيل , وهذا ولا ريب مخالف لما هي عليه الناس .
وأثناء عزلتهُ الطويلة , أخذ الطلاب يفدون إليه من كل ناحية , ليقتبسوا منه علم اللغة والنحو وغيرها من علوم الأدب , وفي تلك المدة ألف الكتب , وأنشئ الرسائل , والتي فاقت كتب ورسائل علماء أقرانه .
كان أبو العلاء المعري يتمتع بذكاء حاد , وذو حافظة قوية , فقد قيل : أنه كان يحفظ المخصص والمحكم .
وعندما كان في بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها , فأدخل فيها وجعل لا يُقرأ عليه كتاب إلا وقد حفظه .
بل وإنه ليحفظ ما يسمع وإن لم يفهم معناه .
يقول تلميذه التبريزي : ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها المعري .
ويقول ابن فضل الله العمري : كان أبو العلاء مطلعاً على العلوم , لا يخلو من علم من الأخذ بطرف , متبحراً في اللغة , متسع النطاق في العربية .
قد تكلم الناس في عقيدة أبي العلاء , بين رأيين , ولا ريب من يقرأ له في اللزوميات نراه بين الشك واليقين , ولسنا نعرف له رأياً ينساق إليه , فمرة هو مؤمن بالله ومرة هو ملحد كافر بالله , وهذا كله يشكل عائقاً كبيراً أمام فهم أبي العلاء .
مع ذلك كله نجزم أن لأبي العلاء حساداً يذكرون على لسانه بعض الأقاويل من نظم ونثر يضمنونها أقاويل الملحدة قصداً لهلاكه , وإيثاراً لأتلاف نفسه .
وإننا لنقرأ له الكثير من تمجيداته لله ومدحه للنبي صلى الله عليه وسلم , فله كتابُ أسماه – الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ - , وهذا الكتاب قيل أنه ألفه ليعارض به القرآن الكريم , وهذا محض افتراء من حساده , وأحسب من قال ذلك ممن ترجم له لم يرى هذا الكتاب , ففي الكتاب نوادر العلم وغرائبه , على أن في الكتاب ما يدحض هذه المفتريات , حيث يقول : " علم ربنا ما علم , أني ألفتُ الكلم , آملُ رضاه المسلَّم , وأتقي سخطه المؤلم , فهب لي ما أبلغُ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب غاية " .
قلت: والكتاب متعة الأديب , فإنه أي أبي العلاء قد ملأه بشتى العلوم من اللغة والأدب والعروض والنحو والتاريخ والحديث والفقه والفلك وغير ذلك.
أقعد أبي العلاء في آخر أيامه , ثم مرض ثلاثة أيام ثم توفي , وذلك يوم الجمعة في النصف الأول من شهر ربيع الثاني سنة 449هـ بالمعرة .
وأوصى أن يكتب على قبره :
هذا ما جناه أبي عليّ وما جنبتُ على أحد
وقيل أنه أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراً مراثي , وقيل : بل سبعون شاعراً يرثون ويبكون عليه , من جملتها أبياتُ لتلميذه أبي الحسن علي بن الهمام من قصيدة طويلةٍ :
إن كنتَ لم ترقِ الدماء زهادةً فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكراً في البلادِ كأنهُ مسكُ مسامعها يضمخُ أو فما


==========================================
أصل البحث كان بتاريخ 14\5\1423هـ 24\7\2002م
وزيدت ونقحت بتاريخ 10\رجب\1433هـ 31\5\2012م
================================================