أدب عربي, تاريخ , علوم القرآن , بلاغة , لغة عربية, تراجم العلماء, شعر عربي, السيرة النبوية, أخبار الصحابة , أخبار التابعين , فكر إسلامي.
الاثنين، 23 فبراير 2015
الخروج من صومعة الكتب - رسائل من نفحات الحياة - تركي الدهماني
قال لي صاحبي بعد ما أخذ له مكاناً
في مكتبي , وراح ينظر ما حوله , فلا يرى غير كتب مرصوصة, وضعت على أربع حيطان وبعد
أن ملَّ من النظر فيها , وأنهكه التأمل بها , أخذه دواراً وألمه رأسه إيلاماً : ألم
يئن بعد أن تخرج من هذه الصومعة الكئيبة, والتي لا تسمع منه صوتاً أو يحتك بك
احتكاكاً إلى العالم الخارجي , وما فيه من ضجيج الحياة , وتخوض فيما يخوض فيه
الناس من أمور حياتهم.
فألتفت إليه باسماً ثم قلت
: أنى لي الخروج وأنا بين هذه الأزهار التي تعج بهذه الحجرة الهدوء والسكينة ,
فتخلق في نفسك راحة عجيبة , إنك لتطلب مني أمراً لا أطيق فعله, ويُحسن بي عمله , فإني
كتلك السمكة التي لا تعرف عالماً تعيش فيه سوى البحر , فما أن تخرج منه تفقد
حياتها .
فقال متعجباً : أكنت تظن
أنك كهذه السمكة ؟.
قلت :عدني بأيها شئت ,
وقل عني ما تريد , فلستُ أميل إلى شيء غير الذي ترى, وأي عالم تتحدث عنه , الذي
تود أن أصحبك إليه , أهو عالم يشرح الصدر, ويقيك من الخطر, أم يحل عليك وعليَّ
بالكدر, ويسلمك إلى الشرّ.
قال: ما اعنيه هو عالم
الناس , حيث صحبتهم , والأخذ معهم في أمور الحياة وما يتصل بها , بدلاً من الانغلاق في وحشة هذه الكتب .
فقلت له: يبدوا أنني سأطيل
معك في الحديث, فاستمع إليَّ رجاءً. إن عالم الناس على اختلاف مشاربهم وعقولهم,
ونفوسهم , ومذاهبهم في هذه الحياة اعلمها , بل وأعلم مبدئها ومنتهاها, فإذن أنا
غني عن صحبتهم, وغني عن خلطتهم وما هم فيه من خطوب لا تنتهي.فإني منذ الصغر أتأمل
الصور وأتأمل كل ما يدور حولي, وأتفكر واستخلص واتقص وأبحث في مكنونات الناس, فلا
ادعي الغيب كلا إنما كفاني ما وجدت من تجارب والناس سواسية في كل شيء, هناك الصالح
والطالح و ما بينهما من فيه ذلكم الخصلتين .فإنك لا ترى سوى ذلك, وإن الذين
يختلطون لا يحبون سوى المتاعب , فلست بحاجة لذلك , وليس لدي من الوقت أضيعه في شيء
اعلم عنه مسبقاً أنه لا يعود إليَّ بكبير فائدة , إنما تجرني جراً نحو ما لا أطيق,
ومن الخير لي أن أنأى عن كل ما يدعوا لمشقة النفس, وأما الانغلاق حسب تعريفك له,
فلست أوافقك إياه جملةً وتفصيلاً, وما أنا مغرق فيه مع نفسي بالصورة الذي طبعته في
مخيلتك, فلستُ كما تظن, وإنما أنا في مكان أشعر فيه بالسَّلام الداخلي , وأرى فيه
الراحة والدعة التي يفتقدها كثير من الناس, وأنت ولا ريب واحد منهم .
فعجباً أن يقال للمرء
الذي يقضي معظم وقته نهاره وليله في مكتبه , وحوله الكتب فيه ما تلذ منه النفوس
والعقول , أيكون ذلك إغلاقاً ؟ ولعل البعض يسميه سجناً, أعلم أنك لا تدرك لذة
العيش الذي أتمتع به, فإني بين سلام داخلي أعيشه, وبين عقلٍ أغذيه, وأي لذةٍ يفتقدها أولئك العابثون بأوقاتهم
في لعب لا تنتهي , وأباطيل لا يفرغون
منها, فأنظر وأمعن النظر في هذه الكتب التي تحيطنا من كل جهة , أفيه ما يضَّرك إن
نظرت إليه , فقس بيني وبين غيري من حياة , لعلك تحسن القياس فيما بينهما من فرق, أفتراني
منغلق عن عالم الناس , لعلك تصورني بذلك الإنسان الذي حكم على نفسه بالسجن الأبدي
, حيث لا خروج منه إلا جثة ميتة, افتراني منغلقاً, أم تراني حابس نفسي فاعتراني
عقدة , كلا, لست بذاك أو بذا, ولست بالسجين الذي لا يعلم عن أمر الحياة شيئاً , وما
الناس فيه يخوضون من قول وفعل, فأقول لك ولغيرك ممن يعتقد كل ذلك, إنني لستُ
منغلقاً ولست سجيناً , وإنما أستطيع من مكاني هذا أن أرى ما يدور حولي من خير وشرّ
, بل قل أشياء , لم تتوقعه رغم اختلاطك بالناس والحياة , هل تريد مني أن أنقل لك
ما في الحياة من مآسي لم تنقرض ولن تنقرض
ما دامت الحياة باقية, وما دامت الشمس تشرق من المشرق, هل أنقل لك صوراً منها وهي
كثيرة:
أني لأنظر لتلك المرأة التي تبحث عن طعام أو
كساء لتقدمه لصغارها.
أو انظر لذلك الرجل الذي
يخطو خطوات متثاقلة يكاد الناظر إليه يظن أنه سيفارق الحياة من وقته , لما أصابه
من جوع ولما أصابه من بؤس البائسين.
أو لذلك الرجل الذي يمضي
جلّ وقته في العمل حتى يحصل على قوته وقوت عياله .
أو كأني أرى ذلك ا لرجل أو تلك المرأة الذين ذهب
لهما حق فلا يدركان كيف يسترد.
أو كأني أرى فساق الناس اليوم لاهون في غيهم مستمتعون, يعبثون ويسرفون في عبثهم دون
تورع .
أو كأني أرى الصالحين من الناس يقدمون دينهم على
مصالحهم الدنيوية. وكأني أرى الذين يؤثرون شهواتهم ويغررن صغار العقول فيتبعوهم
للحصول على رغباتهم الحيوانية .
أو كأني أرى ذاك الشاب
الذي قد تربى على الفضيلة فأصبح راعياً للرذيلة , أو كأني أرى الذين يشوهون الدَّين
أملاً في تحطيم قواعده.
أو كأني أرى الذين
ينافقون وينافحون عن الباطل , وهم يعلمون أنه نفاقاً , وهم أعلم الناس بما في
دخيلة أنفسهم , والله أعلم ما يكنون في صدورهم.
أو كأني أرى تلك الفتاة
والتي لم تجد من والديها الرعاية الكاملة
, من الحنان والعطف والاهتمام , فظلت أسيرةُ في أيدي الذئاب.وكذلك الشُّبان.
والمقام يطيل بنا لو
ذكرت أكثر مما ذكرته لك , كل ذلك أراه من مكاني هذا الذي تدعوه سجناً, ولو أطلت
معك في سرد ما لدي لحار عقلك, ولأصابك العَجب .
قال لي : ما ذكرته آنفاً
كله حقاً , فما الذي دعاك إلى هذا الانغلاق؟ .
قلت له باسماً: أما زلت
تسميٌ ما أنا فيه انغلاقاً , كلا , ليس صحيح ما تقول , فقد حببٌ إليٌ ما ترى ,
انشغال بالعلم والدرس , ووجدت لذتي وراحتي في ذلك. وإني لأحمد الله تعالى بما منّ
به عليَّ , وأي طريق شريف يتبعه المرء في غير العلم
والتعلم , وهذا الذي أنا فيه سبيل مضى عليه أهل العلم , فقد انسوا بعلمهم ووحدوا
في ذلك ما يغنيهم عن العالم الخارجي , وهو مصاحبة أهل الفضل والعلم الذين قضوا
وبقي لهم ذكراً بعد موتهم , من تواليف حسَّان , وتصانيف ظلت حية بعد موتهم, وأجرهم
ظل يرافقهم .
21/9/1433هـ
26/11/2012م
التسميات:
أخبار التابعين,
أخبار الصحابة,
أدب عربي,
تاريخ إسلامي,
تراجم إسلامية,
تركي بن الحسن الدهماني,
شعر عربي.,
قرآن كريم
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)